فصل: ذكر استيلاء صدقة على هيت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر استيلاء صدقة على هيت:

كانت مدينة هيت لشرف الدولة مسلم بن قريش، أقطعه إياها السلطان ألب أرسلان، ولم تزل معه حتى قتل، فنظر فيها عمداء بغداد إلى أن مات السلطان ملكشاه، ثم أخذها أخوه تتش بن ألب أرسلان. فلما استولى السلطان بركيارق أقطعها لبهاء الدولة ثروان بن وهب بن وهيبة، وأقام هو جماعة من بني عقيل عند سيف الدولة صدقة، وكانا متصافيين، وكان صدقة يزوره كثيراً ثم تنافرا.
وكان سبب ذلك أن صدقة زوج بنتاً له من ابن عمه، وكان ثروان قد خطبها، فلم يجبه إلى ذلك، فتحالفت عقيل، وهم في حلة سيف الدولة، أن يكونوا يداً واحدة عليه، فأنكر صدقة ذلك، وحج ثروان عقيب ذلك وعاد مريضاً، فوكل به صدقة، وقال: لا بد من هيت، فأرسل ثروان حاجبه، وكتب خطه بتسليم البلد إليه.
وكان بهيت حينئذ محمد بن رافع بن رفاع بن ضبيعة بن مالك بن مقلد بن جعفر، وأرسل صدقة ابنه دبيساً مع الحاجب ليتسلمها فلم يسلم إليه محمد، فعاد دبيس إلى أبيه، فلما أخذ صدقة واسطاً، هذه النوبة، أصعد في عسكره إلى هيت، فخرج إليه منصور بن كثير ابن أخي ثروان، ومعه جماعة من أصحابه، فلقوا سيف الدولة، وحاربوه ساعة من النهار.
ثم إن جماعة من الربعيين فتحوا لسيف الدولة البلد، فدخله أصحابه، فلما رأى ذلك منصور ومن معه سلموا البلد إليه، فملكه يوم نزوله، وخلع على منصور وجماعة من وجوه أصحابه، وعاد إلى حلته، واستخلف عليه ابن عمه ثابت بن كامل.

.ذكر الحرب بين بركيارق ومحمد:

في هذه السنة، ثامن جمادى الآخرة، كان المصاف الخامس بين السلطان بركيارق والسلطان محمد.
وكانت كنجة وبلاد أران جميعها للسلطان محمد، وبها عسكره، ومقدمهم الأمير غزغلي، فلما طال مقام محمد بأصبهان محصوراً توجه غزغلي والأمير منصور بن نظام الملك وابن أخيه محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك قاصدين لنصرته، ليراهم بعين الطاعة.
وكان آخر ما تقام فيه الخطبة لمحمد زنجان مما يلي أذربيجان، فوصلوا إلى الري في العشرين من ذي الحجة سنة خمس وتسعين، ففارقه عسكر بركيارق، ودخلوه وأقاموا به ثلاثة أيام.
ووصلهم الخبر بخروج السلطان محمد من أصبهان، وأنه وصل إلى ساوة، فساروا إليه، ولحقوه بهمذان ومعه ينال وعلي ابنا أنوشتكين الحسامي، فبلغ عددهم ستة آلاف فارس، فأقاموا بها إلى أواخر المحرم، فأتاهم الخبر بأن السلطان بركيارق قد أتاهم، فتلونوا في رأيهم، فسار ينال وعلي ابنا أنوشتكين إلى الري، على ما ذكرناه، وعزم السلطان محمد على التوجه إلى شروان، فوصل إلى أردبيل، فأرسل إليه الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي، صاحب بعض أذربيجان، وكانت قبله لأبيه إسماعيل بن ياقوتي، وهو خال السلطان بركيارق، وكانت أخته زوجة السلطان محمد، وهو مطالب السلطان بركيارق بثأر أبيه، وقد تقدم مقتله أول دولة بركيارق، وقال له: ينبغي أن تقدم إلينا لتجتمع كلمتنا على طاعتك، وقتال خصمنا، فسار إليه مجداً، وتصيد في طريقه بين أردبيل وبيلقان، وانفرد عن عسكره، فوثب عليه نمر، وهو غافل، فجرح السلطان محمداً في عضده، فأخذ سكيناً وشق بها جوف النمر فألقاه عن فرسه ونجا.
ثم إن مودود بن إسماعيل توفي في النصف من ربيع الأول، وعمره اثنتان وعشرون سنة، ولما بلغ بركيارق اجتماع السلطان محمد والملك مودود سار غير متوقف، فوصل بعد موت مودود، وكان عسكر مودود قد اجتمعوا على طاعة السلطان محمد، وحلفوا له، وفيهم سكمان القبطي، ومحمد بن باغي سيان، الذي كان أبوه صاحب أنطاكية، وقزل أرسلان بن السبع الأحمر، فلما وصل بركيارق وقعت الحرب بينهما على باب خوي من أذربيجان عند غروب الشمس، ودامت إلى العشاء الآخرة.
فاتفق أن الأمير إياز أخذ معه خمسمائة فارس مستريحين، وحمل بهم، وقد أعيا العسكر من الجهتين، على عسكر السلطان محمد، فكسرهم، وولوا الأدبار لا يلوي أحد على أحد.
فأما السلطان بركيارق فإنه قصد جبلاً بين مراغة وتبريز، كثير العشب والماء، فأقام به أياماً، وسار إلى زنجان.
وأما السلطان محمد فإنه سار مع جماعة من أصحابه إلى أرجيش، من بلاد أرمينية، على أربعين فرسخاً من الوقعة، وهي من أعمال خلاط، من جملة أقطاع الأمير سكمان القبطي، وسار منها إلى خلاط، واتصل به الأمير علي صاحب أرزن الروم، وتوجه إلى آني، وصاحبها منوجهر أخو فضلون الروادي، ومنها سار إلى تبريز من أذربيجان. وسنذكر باقي أخبارهم سنة سبع وتسعين عند صلحهم إن شاء الله.
وكان الأمير محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك مع السلطان محمد في هذه الوقعة، فمر منهماً، ودخل ديار بكر، وانحدر منها إلى جزيرة ابن عمر، وسار منها إلى بغداد، وكان في حياة أبيه يقيم ببغداد في سوق المدرسة، فاتصلت الشكاوى منه إلى أبيه، فكتب إلى كوهرائين بالقبض عليه، فاستجار بدار الخلافة، وتوجه سنة اثنتين وتسعين إلى مجد الملك البلاساني، ووالده حينئذ بكنجة عند السلطان محمد، قبل أن يخطب لنفسه بالسلطنة، وتوجه بعد قتل مجد الملك إلى والده، وقد صار وزير السلطان محمد، وخطب لمحمد بالسلطنة، وبقي بعد قتل والده، واتصل بالسلطان محمد، وحضر معه هذه الحرب فانهزم.

.ذكر عزل سديد الملك وزير الخليفة ونظر أبي سعد بن الموصلايا في الوزارة:

في هذه السنة، منتصف رجب، قبض على الوزير سديد الملك أبي المعالي، وزير الخليفة، وحبس في دار بدار الخلافة، وكان أهله قد وردوا عليه من أصبهان، فنقلوا إليه، وكان محبسه جميلاً.
وسبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة، فإنه قضى عمره في أعمال السلاطين، وليس لهم هذه القواعد، ولما قبض عاد أمين الدولة بن الموصلايا إلى النظر في الديوان.
ومن عجيب ما جرى من الكلام الذي وقع بعد أيام أن سديد الملك كان يسكن في دار عميد الدولة بن جهير، وجلس فيها مجلساً عاماً يحضره الناس لوعظ المؤيد عيسى الغزنوي، فأنشدوا أبياتاً ارتجلها:
سديد الملك سدت، وخضت بحراً ** عميق اللج، فاحفظ فيه روحك

وأحي معالم الخيرات، واجعل ** لسان الصدق في الدنيا فتوحك

وفي الماضين معتبر، فأسرج ** مروحك في السلامة، أو جموحك

ثم قال سديد الملك: من شرب من مرقة السلطان احترقت شفتاه، ولو بعد زمان، ثم أشار إلى الدار وقرأ: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم} فقبض على الوزير بعد أيام.

.ذكر ملك الملك دقاق مدينة الرحبة:

في هذه السنة، في شعبان، ملك الملك دقاق بن تتش، صاحب دمشق، مدينة الرحبة، وكانت بيد إنسان اسمه قايماز من مماليك السلطان ألب أرسلان، فلما قتل كربوقا استولى عليها، فسار دقاق وطغتكين أتابكه إليه، وحصراه بها، ثم رحل عنه.
وتوفي قايماز هذه السنة في صفر، وقام مقامه غلام تركي اسمه حسن، فأبعد عنه كثيراً من جنده، وخطب لنفسه، وخاف من دقاق، فاستظهر، وأخذ جماعة من السالارية الذين يخافهم، فقبض عليهم، وقتل جماعة من أعيان البلد، وحبس آخرين وصادرهم. فتوجه دقاق إليه وحصره، فسلم العامة البلد إليه، واعتصم حسن بالقلعة، فأمنه دقاق، فسلم القلعة إليه، فأقطعه إقطاعاً كثيراً بالشام، وقرر أمر الرحبة، وأحسن إلى أهلها، وجعل فيها من يحفظها، ورحل عنها إلى دمشق.

.ذكر أخبار الفرنج بالشام:

كان الأفضل أمير الجيوش بمصر قد أنفذ ملوكاً لأبيه، لقبه سعد الدولة، ويعرف بالطواشي، إلى الشام لحرب الفرنج، فلقيهم بين الرملة ويافا، ومقدم الفرنج يعرف ببغدوين، لعنه الله تعالى، وتصافوا واقتتلوا، فحملت الفرنج حملة صادقة، فانهزم المسلمون.
وكان المنجمون يقولون لسعد الدولة: إنك تموت متردياً، فكان يحذر من ركوب الخيل، حتى إنه ولي بيروت وأرضها مفروشة بالبلاط، فقلعه خوفاً أن يزلق به فرسه، أو يعثر، فلم ينفعه الحذر عند نزول القدر، فلما كانت هذه الوقعة انهزم، فتردى به فرسه، فسقط ميتاً، وملك الفرنج خيمه وجميع ما للمسلمين.
فأرسل الأفضل بعده ابنه شرف المعالي في جمع كثير، فالتقوا هم والفرنج بيازوز،، بقرب الرملة، فانهزم الفرنج، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وعاد من سلم منهم مغلولين، فلما رأى بغدوين شدة الأمر، وخاف القتل والأسر، ألقى نفسه في الحشيش واختفى فيه، فلما أبعد المسلمون خرج منه إلى الرملة. وسار شرف المعالي بن الأفضل من المعركة، ونزل على قصر بالرملة، وبه سبعمائة من أعيان الفرنج، وفيهم بغدوين، فخرج متخفياً إلى يافا، وقاتل ابن الأفضل من بقي خمسة عشر يوماً، ثم أخذهم، فقتل منهم أربعمائة صبراً، وأسر ثلاثمائة إلى مصر.
ثم اختلف أصحابه في مقصدهم، فقال يوم: نقصد البيت المقدس ونتملكه، وقال قوم: نقصد يافا ونملكها.
فبينما هم في هذا الاختلاف، إذ وصل إلى الفرنج خلق كثير في البحر، قاصدين زيارة البيت المقدس، فندبهم بغدوين للغزو معه، فساروا إلى عسقلان، وبها شرف المعالي، فلم يكن يقوى بحربهم، فلطف الله بالمسلمين، فرأى الفرنج البحرية حصانة عسقلان، وخافوا البيات، فرحلوا إلى يافا، وعاد ولد الأفضل إلى أبيه، فسير رجلاً يقال له تاج العجم في البر، وهو من أكبر مماليك أبيه، وجهز معه أربعة آلاف فارس، وسير في البحر رجلاً يقال له القاضي ابن قادوس، في الأسطول على يافا، ونزل تاج العجم على عسقلان، فاستدعاه ابن قادوس إليه ليتفقا على حرب الفرنج، فقال تاج العجم: ما يمكنني أن أنزل إليك إلا بأمر الأفضل، ولم يحضر عنده، ولا أعانه، فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان، وشهودها، وأعيانها، وأخذ خطوطهم بأنه أقام على يافا عشرين يوماً، واستدعى تاج العجم، فلم يأته، ولا أرسل رجلاً، فلما وقف الأفضل على الحال أرسل من قبض على تاج العجم، وأرسل رجلاً، لقبه جمال الملك، فأسكنه عسقلان، وجعله متقدم العساكر الشامية.
وخرجت هذه السنة وبيد الفرنج، لعنهم الله، البيت المقدس، وفلسطين، ما عدا عسقلان، ولهم أيضاً يافا، وأرسوف، وقيسارية، وحيفا، وطبرية، واللاذقية، وأنطاكية، ولهم بالجزيرة الرها، وسروج.
وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام، والمواد تأتيها، وبها فخر الملك بن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج، ويقتلون من وجدوا، وقصد بذلك أن يخلو السواد ممن يزرع لتقل المواد من الفرنج فيرحلوا عنه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، سادس المحرم، توفيت بنت أمير المؤمنين القائم بأمر الله، التي كانت زوجة السلطان طغرلبك، وكانت موصوفة بالدين، وكثرة الصدقة، وكان الخليفة المستظهر بالله قد ألزمها بيتها، لأنه بلغ عنها أنها تسعى في إزالة دولته.
وفيها، في شعبان أيضاً، استوزر المستظهر بالله زعيم الرؤساء أبا القاسم بن جهير، واستقدمه من الحلة من عند سيف الدولة صدقة، وقد ذكرنا في السنة المتقدمة سبب مسيره إليها، فلما قدم إلى بغداد وخرج كل أرباب الدولة فاستقبلوه، وخلع عليه الخلع التامة، وأجلس في الديوان ولقب قوام الدين.
وفيه أيضاً قتل أبو المظفر بن الخجندي بالري، وكان يعظ الناس، فقتله رجل علوي حين نزل من كرسيه، وقتل العلوي ودفن الخجندي بالجامع، وأصل بيت الخجندي من مدينة خجندة، بما وراء النهر، وينسبون إلى المهلب بن أبي صفرة، وكان نظام الملك قد سمع أبا بكر محمد بن ثابت الخجندي يعظ بمرو، فأعجبه كلامه، وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصبهان، وصار مدرساً بمدرسته بها، فنال جاهاً عريضاً، ودنيا واسعة، وكان نظام الملك يتردد إليه ويزوره.
وفيها جمع ساغربك، بما وراء النهر، جموعاً كثيرة، وهو من أولاد الخانية، وقصد محمد خان الذي ملكه السلطان سنجر سمرقند، ونازعه في ملكها، فضعف محمد خان عنه، فأرسل إلى السلطان سنجر يستنجده، فسار إلى سمرقند، فأبعد عنه ساغربك، وخافه، واحتمى منه، وأرسل يطلب الأمان من سنجر، والعفو، فأجابه إلى ما طلب، وحضر ساغربك عنده، وقرر الصلح بينه وبين محمد خان، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى خراسان، فوصل إلى مرو في ربيع الأول سنة سبع وتسعين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو المعالي الصالح، ساكن باب الطاق، وكان مقلاً من الدنيا، له كرامات ظاهرة. ثم دخلت:

.سنة سبع وتسعين وأربعمائة:

.ذكر ملك بلك بن بهرام مدينة عانة:

في هذه السنة، في المحرم، استولى بلك بن بهرام بن أرتق، وهو ابن أخي إيلغازي بن أرتق، على مدينة عانة، والحديثة، وكان له مدينة سروج، فأخذها الفرنج منه، فسار عنها إلى عانة وأخذها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط، فقصد بنو يعيش سيف الدولة صدقة بن مزيد، ومعهم مشايخهم، فسألوه الإصعاد إليها، وأن يتسلمها منهم، ففعل وأصعد معهم.
فرحل التركمان وبهرام عنها، وأخذ صدقة رهائنهم، وعاد إلى حلته، فرجع بلك إليها ومعه ألفا رجل من التركمان، فمانعه أصحابه قليلاً، واستدل على المخاضة إليها، فخاضها وعبر، وملكهم ونهبهم، وسبى جميع حرمهم وانحدر طالباً هيت من الجانب الشامي، فبلغ إلى قريب منها، ثم رجع من يومه، ولما سمع صدقة جهز العساكر، ثم أعادهم عند عود بلك.

.ذكر غارة الفرنج على الرقة وقلعة جعبر:

في هذه السنة، في صفر، أغار الفرنج من الرها على مرج الرقة وقلعة جعبر، وكانوا لما خرجوا من الرها افترقوا فرقتين، وأبعدوا يوماً واحداً تكون الغارة على البلدين فيه، ففعلوا ما استقر بينهم، وأغاروا، واستاقوا المواشي، وأسروا من وقع بأيديهم من المسلمين، فكانت القلعة والرقة لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب سلمها إليه السلطان ملكشاه سنة تسع وسبعين، وقد ذكرناه فيها.

.ذكر الصلح بين السلطان بركيارق ومحمد:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، وقع الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه.
وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما، وعم الفساد، فصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والقرى محرقة، والسلطنة مطموعاً فيها، محكوماً عليها، وأصبح الملوك مقهورين، بعد أن كانوا قاهرين، وكان الأمراء الأكابر يؤثرون ذلك ويختارونه ليدوم تحكمهم، وانبساطهم، وإدلالهم.
وكان السلطان بركيارق حينئذ بالري والخطبة له بها، وبالجبل، وطبرستان، وخوزستان، وفارس، وديار بكر، والجزيرة، وبالحرمين الشريفين.
وكان السلطان محمد بأذربيجان، والخطبة له فيها، وببلاد أرانية، وأرمينية، وأصبهان، والعراق، كلها ما عدا تكريت.
وأما أعمال البطائح فيخطب ببعضها لبركيارق، وببعضها لمحمد.
وأما البصرة فكان يخطب فيها لهما جميعاً.
وأما خراسان فإن السلطان سنجر كان يخطب له في جميعها، وهي من حدود جرجان إلى ما وراء النهر، ولأخيه السلطان محمد.
فلما رأى السلطان بركيارق المال عنده معدوماً، والطمع من العسكر زائداً، أرسل القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي، وأبا الفرج أحمد بن عبد الغفار الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين، إلى أخيه محمد في تقرير قواعد الصلح، فسارا إليه، وهو بالقرب من مراغة، فذكرا له ما أرسلا فيه، ورغباه في الصلح وفضيلته، وما شمل البلاد من الخراب، وطمع عدو الإسلام في أطراف الأرض. فأجاب إلى ذلك، وأرسل فيه رسلاً، واستقر الأمر، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وتقررت القاعدة: أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمداً في الطبل، وأن لا يذكر معه على سائر البلاد التي صارت له، وأن لا يكاتب أحدهما الآخر بل تكون المكاتبة من الوزيرين، ولا يعارض أحد من العسكر في قصد أيهما شاء، وأن يكون للسلطان محمد من النهر المعروف بإسبيذروذ، إلى باب الأبواب، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، والشام، ويكون له من بلاد العراق بلاد سيف الدولة صدقة.
فأجاب بركيارق إلى هذا، وزال الخلف، والشغب، وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان يأمرهم بالانصراف عن البلد، وتسليمه إلى أصحاب أخيه، وسار السلطان بركيارق إلى أصبهان، فلما سلمها إليه أصحاب أخيه دعاهم إلى أن يكونوا معه، وفي خدمته، فامتنعوا، ورأوا لزوم خدمة صاحبهم، فسماهم أهل العسكرين جميعاً: أهل الوفاء، وتوجهوا من أصبهان، ومعهم حريم السلطان محمد، إليه، وأكرمهم بركيارق، وحمل لأهل أخيه المال الكثير، ومن الدواب ثلاثمائة جمل، ومائة وعشرين بغلاً، تحمل الثقل، وسير معهم العساكر يخدمونهم.
ولما وصلت رسل السلطان بركيارق إلى الخليفة المستظهر بالله بالصلح، وما استقرت القواعد عليه، حضر إيلغازي بالديوان، وسأل في إقامة الخطبة لبركيارق، فأجيب إلى ذلك، وخطب له بالديوان يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأولى، وخطب له، من الغد، بالجوامع، وخطب له أيضاً بواسط.
ولما خطب إيلغازي ببغداد لبركيارق، وصار في جملته، أرسل الأمير صدقة إلى الخليفة يقول: كان أمير المؤمنين ينسب إلي كل ما يتجدد من إيلغازي من إخلال بواجب الخدمة، وشرط الطاعة، ومن اطراح المراقبة، والآن، فقد أبدى صفحته للسلطان الذي استنابه، وأنا غير صابر على ذلك، بل أسير لإخراجه عن بغداد.
فلما سمع إيلغازي ذلك شرع في جمع التركمان، وورد صدقة بغداد، فنزل مقابل التاج، وقبل الأرض، ونزل في مخيمه بالجانب الغربي، ففارق إيلغازي بغداد إلى يعقوبا، وأرسل إلى صدقة يعتذر من طاعته لبركيارق بالصلح الواقع، وأن إقطاعه حلوان وغيرها في جملة بلاده، وأن بغداد التي هو شحنة فيها قد صارت له، فذلك الذي أدخله في طاعته. فرضي عنه صدقة، وعاد إلى الحلة.
وفي ذي القعدة سيرت الخلع من الخليفة للسلطان بركيارق، وللأمير إياز، ولوزير بركيارق، وهو الخطير، والعهد بالسلطنة، وحلفوا جميعهم للخليفة وعادوا.

.ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا من الشام:

في هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية، فيها التجار، والأجناد، والحجاج، وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحصروها معه براً وبحراً، وضايقوها، وقاتلوها أياماً، فلم يروا فيها مطمعاً، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل، فحصروها، وقاتلوا عليها قتالاً شديداً. فلما رأى أهلها عجزهم عن الفرنج أخذوا أماناً، وسلموا البلد إليهم، فلم تف الفرنج لهم بالأمان، وأخذوا أموالهم، واستنقذوها بالعقوبات وأنواع العذاب.
فلما فرغوا من جبيل ساروا إلى مدينة عكا، استنجدهم الملك بغدوين، ملك الفرنج، صاحب القدس على حصارها، فنازلوها، وحصروها في البر والبحر.
وكان الوالي بها اسمه بنا، ويعرف بزهر الدولة الجيوشي، نسبة إلى ملك الجيوش الأفضل، فقاتلهم أشد قتال، فزحفوا إليه غير مرة، فعجز عن حفظ البلد، فخرج منه، وملك الفرنج البلد بالسيف قهراً، وفعلوا بأهله الأفعال الشنيعة، وسار الوالي به إلى دمشق، فأقام بها، ثم عاد إلى مصر، واعتذر إلى الأفضل فقبل عذره.

.ذكر غزو سقمان وجكرمش الفرنج:

لما استطال الفرنج، خذلهم الله تعالى، بما ملكوه من بلاد الإسلام، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام، وملوكه، بقتال بعضهم بعضاً، تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت الأموال.
وكانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجه، فاستخلف عليها إنساناً يقال له محمد الأصبهاني، وخرج في العام الماضي، فعصى الأصبهاني على قراجه، وأعانه أهل البلد لظلم قراجه.
وكان الأصبهاني جلداً، شهماً، فلم يترك بحران من أصحاب قراجه سوى غلام تركي يعرف بجاولي، وجعله أصفهسلار العسكر، وأنس به، فجلس معه يوماً للشرب، فاتفق جاولي مع خادم له على قتله فقتلاه وهو سكران. فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها.
فلما سمع معين الدولة سقمان، وشمس الدولة جكرمش ذلك، وكان بينهما حرب، وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه، وكل منهما يستعد للقاء صاحبه، وأنا أذكر سبب قتل جكرمش له، إن شاء الله تعالى، أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران، ويعلمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى، وثوابه، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه، وسارا، فاجتمعا على الخابور، وتحالفا، وسارا إلى لقاء الفرنج.
وكان مع سقمان سبعة آلاف فارس من التركمان، ومع جكرمش ثلاثة آلاف فارس من الترك، والعرب، والأكراد، فالتقوا على نهر البليخ، وكان المصاف بينهم هناك، فاقتتلوا، فأظهر المسلمون الانهزام، فتبعهم الفرنج نحو فرسخين، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا، وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم، ووصلوا إلى الأموال العظيمة، لأن سواد الفرنج كان قريباً، وكان بيمند، صاحب أنطاكية، وطنكري، صاحب الساحل، قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم، إذا اشتدت الحرب، فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين، وسوادهم منهوباً، فأقاما إلى الليل، وهربا، فتبعهما المسلمون، وقتلوا من أصحابهما كثيراً، وأسروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان.
وكان القمص بردويل، صاحب الرها، قد انهزم مع جماعة من قمامصتهم، وخاضوا نهر البليخ، فوجلت خيولهم، فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم، وحمل بردويل إلى خيم صاحبه، وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند، فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج، ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل، فقالوا لجكرمش: أي منزلة تكون لنا عند الناس، وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا؟ وحسنوا له أخذ القمص، فأنفذ فأخذ القمص من خيم سقمان، فلما عاد سقمان شق عليه الأمر، وركب أصحابه للقتال، فردهم، وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمهم باختلافنا، ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين. ورحل لوقته، وأخذ سلاح الفرنج، وراياتهم، وألبس أصحابه لبسهم، وأركبهم خيلهم، وجعل يأتي حصون شيحان، وبها الفرنج، فيخرجون ظناً منهم أن اصحابهم نصروا، فيقتلهم ويأخذ الحصن منهم، فعل ذلك بعدة حصون.
وأما جكرمش فإنه سار إلى حران، فتسلمها، واستخلف بها صاحبه. وسار إلى الرها، فحصرها خمسة عشر يوماً، وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان، ففاداه بخمسة وثلاثين ديناراً، ومائة وستين أسيراً من المسلمين، وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل.